الطفل لا ينطفئ فجأة: كيف نحمي ضوء العلاقة قبل أن يخفت؟

الطفل لا ينطفئ فجأة!
لا يحدث ذلك في لحظة غضب، ولا في نوبة بكاء، ولا في موقف واحد رفضنا له طلباً.. الانطفاء يبدأ حين ينطفئ فيه الأمان، حين لا يجد من يراه حقاً، ولا من يُنصت لصوته الخافت. يحدث حين تُستبدل لغة التواصل بلغة التوجيه، ويعلو الانفعال على الحضور، وحين نُربي من المكان المرهق بدل المكان الهادئ.

في الظاهر، يبدو الطفل نفسه: يضحك، يلعب، يشارك الآخرين.. لكن في العمق، تبهت تلك الشعلة الصغيرة التي تمنحه الرغبة في التواصل، وتخفت مع كل مرة لا يُفهَم فيها كما هو. الطفل لا ينطفئ فجأة، بل حين تُستبدل العلاقة بالحب المشروط، والفهم بالتحكم.

ماذا يعني “انطفاء الطفل”؟

الانطفاء الذي أعنيه في هذا المقال، ليس مجرد غياب الضحكة أو الفرح، بل غياب الدافعية الداخلية التي تدفع الطفل للتفاعل مع الحياة. حين ينطفئ، لا يتوقف عن الكلام أو اللعب، لكنه يفقد تلك الطاقة العفوية التي كانت تملأ وجوده. تصبح نظرته أكثر حذراً، وصوته أقل عفوية، وردوده مختصرة. يبدأ بالانسحاب من الحديث، أو يفعل ما يُطلب منه دون حماس أو رغبة حقيقية.

من الناحية العصبية، يحدث هذا حين ينتقل جسد الطفل من وضع “الأمان” إلى وضع ”الدفاع”. فعندما يتعرض لتوتر متكرر –  صراخ، توبيخ، تجاهل، أو توقعات تفوق طاقته –  يُفعِّل دماغه ما يُعرف بـالجهازالعصبيّ السمبثاويّ المسؤول عن الاستجابة للخطر.
في هذه الحالة، يتوقّف نشاط الجزء الأمامي من الدماغ (القشرة الجبهية) المسؤول عن التعلّم، والتفكير، وتنظيم المشاعر،
ويُصبح الطفل إما في حالة مقاومة (غضب وعناد)، أو هروب (انسحاب وتجنّب)، أو تجمّد (صمت وخضوع). ومع الوقت، يتكيّف جسده على هذا النمط الدفاعي، فيعيش يقظاً في داخله، لكن بلا طمأنينة. وهنا يبدأ الانطفاء: حين يظلّ في حالة نجاة، لا في حالة حياة.

جذور الانطفاء: حين يضعف التواصل

لا يحدث الانطفاء من حدث كبير بالضرورة، بل من تكرار التفاصيل الصغيرة التي تمر بلا انتباه.. حين يسمع الطفل مئات التوجيهات يومياً، ولا يسمع في المقابل صوتاً يقول: “أفهمك”، يبدأ الرابط بينكما بالبهتان.
حين ترد بسرعة لتصحيح السلوك قبل أن تُصغي لما وراءه من مشاعر، تخسر جزءاً من العلاقة وأنت تظنّ أنك تُعلّمه. وحين تجلس معه بجسدك بينما ذهنك في مكان آخر، يشعر بأن الحضور موجود، لكن الاتصال مفقود.

الانطفاء يحدث حين تتحوّل العلاقة إلى أداء، حين تطلب منه أن يكون “جيداً” أكثر مما تسمح له أن يكون ”صادقاً“.. يحدث حين يغيب الوقت النوعي الذي يُنعش العلاقة، وحين تحكمها لغة الخوف بدل لغة الأمان. في مثل هذه اللحظات، يختار الطفل الصمت بدل الصدق، ويعتاد أن يخفي بدل أن يُعبّر.

كيف نُعيد إشعال الضوء؟

الضوء لا يعود بالصراخ ولا بالمحاضرات، بل بالدفء.. بالإنصات قبل التوجيه، وبالطمأنينة قبل التصحيح. حين تسمح لنفسك كمربي أن تتوقّف لحظة، أن تلتقط أنفاسك قبل الرد، تصنع مساحة آمنة يتنفّس فيها الطفل من جديد.

حاول أن تبدأ بالحضور الصادق: اجلس معه بكل حواسك، لا بجسدك فقط بل بقلبك أيضاً.. استمع حتى النهاية دون استعجال. و ساعده أن يفهم  مشاعره: “يبدو أنك متضايق لأن اللعبة انكسرت”، “تبدو خائفاً من الذهاب غداً“.. هذا الفهم  يساعده أن يستعيد جزءاً من اتزانه.

ولا ننسى التواصل الجسدي أيضاً، فاللمس، والعناق، والنظر في العينين ليست تفاصيل عابرة. كلّها إشارات عصبية تُرسل للدماغ رسالة واحدة: أنت آمن! والأهم من هذا كله،حين تهدأ أنت كمربي، يهدأ هو، لأن الضوء في داخله يشتعل حين يرى فيك ضوءاً لا يُطفئه الخوف.

 العلاقة كبيئة للنمو لا كوسيلة للضبط

العلاقة ليست وسيلة نستخدمها لتصحيح الطفل أو لجعله “أفضل”، بل هي البيئة التي ينمو فيها بسلام. حين تُربيه من مبدأ الحفاظ على العلاقة بدلاً من منطلق تصحيح السلوك، فإنك لا تعلّمه فقط كيف يتصرف، بل تُعلمه كيف يحب، وكيف يثق، وكيف يرى نفسه بعين الأمان.

كل تفاعل بينك وبينه يترك أثراً: إما يقربه منك، أو يوسع المسافة بينكما. وحين يشعر الطفل بأن العلاقة آمنة، تصبح هي البوصلة التي تهديه في المواقف الصعبة دون حاجة إلى مراقبة أو تهديد.

الطفل الذي يُفهَم، يتعلم أن يضبط نفسه من الداخل. وحين يخطئ، يعرف أنه ما زال محبوباً، فيجد الشجاعة ليعتذر ويُحاول من جديد.. العلاقة الآمنة لا تُنتج طفلاً مثالياً، بل طفلاً قادراً على النمو بثقة، حتى وهو يتعثر.

الطفل لا ينطفئ فجأة..
ينطفئ حين تخفت لغة الانصات، حين يبهت الحضور، حين يشعر أن مشاعره عبئاً لا يُحتمل.
لكنه يمكن أن يُضيء من جديد في اللحظة التي تختار فيها أن تراه بعين الفهم، لا بعين الحكم. و تذكر أنك حين تحمي العلاقة، تحمي الطفل من الانطفاء.. وحين تختار الفهم، تُشعل النور، لا فيه فقط، بل فيك أيضاً.

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *