أسطورة الأم الخارقة: حين تمنعنا الصورة المثالية من مد اليد

قبل أسابيع، وأنا أتنقل بين جلسات التدريب، ورسائل تنتظر الرد، بينما صغيرتي تمد يديها إليّ، وتوأمي يسألان عن مساعدة في تجهيز علبة الطعام للمدرسة.. جلست للحظة على طرف الكنبة أتنفس بعمق، أراقب كيف امتد يومي بلا توقف منذ الصباح، وتذكرت ما أكرره كثيراً مع الأمهات «الأم القوية ليست من تفعل كل شيء وحدها، بل من تعرف متى تطلب الدعم»!

نشأتُ على رسائل تشجّع على الاعتماد على النفس، وتُشيد بمن “لا يحتاج أحدًا”. تعلّمت أن أُنجز وأحل كل شيء وحدي، حتى بدا لي طلب المساندة كأنه ضعف خفي. ومع كل أم ألتقيها اليوم، أكتشف أن تلك الرسائل — برغم نيتها الحسنة — قد سرقت منا شيئاً أساسياً: الإحساس بأننا نستحق أن تُسندنا أيدٍ أخرى.. القوة الحقيقية لا تعني أن أُحكم قبضتي على كل شيء، بل أن أملك شجاعة فتح اليد لتستقبل الدعم، وأن أسمح للعلاقات حولي أن تكون جسراً للأمان، لا اختباراً جديداً لكفاءتي.

الأمومة بين الماضي والحاضر: كيف تغيّرت ملامح الدعم

في الأزمنة القديمة، لم تكن الأمومة رحلة فردية كما نعيشها اليوم. كانت البيوت تسكنها عائلات ممتدة، والقرى تمتلئ بأصوات الجدات والخالات والجيران، يتبادلون الأدوار بعفوية. كان من الطبيعي أن تساعد امرأة أخرى في إرضاع المولود، أو أن تجلس الجارات بجانب أم منهكة لتمنحها وقتاً لتلتقط أنفاسها.. لم يكن طلب المساعدة علامة ضعف، بل كان جزءًا من نسيج الحياة اليومية.

مع تحول الاقتصاد وازدياد وتيرة العمل المدفوع، تراجعت البنية الجماعية لصالح الأسر النووية الصغيرة. انتقلت الأمهات إلى مدن بعيدة عن عائلاتهن، وأصبح الإيقاع السريع للحياة يفرض عزلة غير مرئية.. ظهرت ثقافة “الاكتفاء الذاتي” و”الإنتاجية”، حتى داخل البيت؛ فصار يُنظر إلى الأم التي تحتاج يداً أخرى كأنها لم تُحسن تنظيم وقتها أو لم “تتأقلم بعد”.

هذا التحوّل الاجتماعي ـ من مجتمعات متشاركة إلى أسر صغيرة محاطة بتوقعات عالية ـ جعل طلب الدعم أصعب من قبل. لم تعد المساندة متاحة تلقائياً، وصار على الأم أن تبذل جهداً لتبحث عن مصادرها: من مجموعات الأمهات، أو برامج مجتمعية، أو حتى خدمات مدفوعة كجلسات مساندة نفسية أو حضانات مرنة.

ثقافة القوة والصورة المثالية

في مجتمعات كثيرة، تتربّى الفتيات على فكرة أن “الأم الناجحة” هي التي تتحمل وتصبر دون أن تهتز. يقال لهن منذ الصغر: “الأم عمود البيت، لا تسقط.” هذه الرسائل تتسلل بعمق إلى اللاوعي، لتصبح معياراً يُقاس به النجاح الأمومي.

ثم يأتي عالم الصور المصفّاة على وسائل التواصل الاجتماعي ليضاعف هذا العبء؛ حيث تظهر أمهات ينسقن بيوتاً مرتبة، ويطبخن وجبات صحية متقنة، وأطفالهن يبتسمون بوجوه نظيفة طوال الوقت. حتى اللحظات المتعبة يتم تقديمها هناك بإضاءة لطيفة وتعليق ساخر يُخفف وقعها، فيبدو الإرهاق نفسه جميلاً وقابلاً للتحكّم.

هذه البيئة تولّد شعوراً بأن التعب ليس مقبولاً إلا إذا كان “لطيفاً” أو مخفياً خلف ابتسامة. وحين تفكر الأم في طلب المساعدة، قد تشعر وكأنها تُمزق القناع الذي يُتوقع منها ارتداؤه دائماً.. فتختار أن تصمت، لتبقى صورتها كما يريدها الآخرون.

الخوف من الأحكام أو الإزعاج

طلب الدعم يعني الانكشاف أمام الآخر، وهو أمر قد يبدو مخيفاً للكثيرات. كثير من الأمهات قيل لهن:

“تهوّلين الأمور!”
“كل الأمهات مررن بهذا، اصبري فقط.”

هذا النوع من الردود يترك أثراً طويل الأمد؛ فتتعلم أن السلامة تكمن في الصمت. هناك أيضاً خوف من أن يُنظر إليها كعبء. الأم تفكر: “لديهم حياتهم، مشاكلهم، لا أرغب في إزعاجهم بمشاكلي.” فبدلاً من منح الفرصة لمن حولها لدعمها، تفضل الانسحاب، حتى وهي منهكة.

الخوف هنا ليس فقط من الرفض، بل من انكسار صورة الذات أمام الآخرين. بعض الأمهات يقلقن من أن يبدو طلبهن للمساعدة وكأنه دليل ضعف في قدرتهن على “السيطرة”. في حين أن الحقيقة هي أن الشجاعة تكمن في قول: “أحتاج يداً الآن.”

الاستقلالية الزائدة و عبء «افعلي كل شيء وحدك»

في بعض البيوت، تُربى الفتيات على مبدأ: «لا تحتاجين أحداً… كوني قوية… اعتمدي على نفسك في كل شيء».
هذه النية قد تبدو نبيلة، لكنها إذا أُخذت بلا توازن، تزرع في داخلها رسالة خفية: طلب المساعدة = ضعف.
وحين تكبر وتدخل تجربة الأمومة، تجد نفسها محاصرة بين ما تحتاجه فعلاً وبين الصوت القديم الذي يوبخها إن فكرت في أن تقول: «هل يمكنك أن تساعدني؟».
بدلاً من أن تكون الاستقلالية مهارة صحية، تتحوّل إلى عبء يمنعها من بناء شبكات دعم طبيعية، فيتضاعف شعورها بأنها “يجب أن تتحمّل كل شيء وحدها”.

غياب البيئة الآمنة

رغم أن العوامل السابقة تنبع من داخل الأم وصورتها عن ذاتها، إلا أن المحيط الخارجي له دوره. أحياناً، لا تطلب الأم المساعدة لأنها لم تجد من يوفّر لها مساحة رحبة وآمنة. إذا كان من حولها يقلّلون من شأن مشاعرها أو يتعاملون مع إرهاقها بسخرية، ستفضّل التظاهر بالقوة بدل أن تواجه رفضاً جديداً.. وجود دوائر داعمة – سواء أصدقاء أو مجتمعات أمومة واعية مثل مجتمع البستان – يصنع فارقاً هائلاً؛ إذ يمنح الأم فرصة لتتحدث بلا خوف، وتجد من يفهم تجربتها بدل أن يحاكمها.

أبعاد نفسية خفية

وراء كل هذه الأسباب تتخفى حاجة أساسية في النفس البشرية: الحاجة إلى الانتماء والأمان.. الدعم الاجتماعي يقلّل من إفراز هرمونات التوتر (الكورتيزول) ويعزز إفراز هرمونات الاسترخاء مثل الأوكسيتوسين. هذا ليس رفاهية؛ بل احتياج بيولوجي يقي الأم من الإنهاك المزمن! و حين تكبت الأم طلبها للمساندة، تدخل في حلقة استنزاف: تعب، عزلة، لوم الذات. بينما يكسر طلب الدعم هذه الحلقة، ويفتح نافذة لتجديد الطاقة العاطفية والجسدية.

نحو إعادة تعريف القوة والدعم

ربما حان الوقت لنسأل أنفسنا: ما الصورة التي نحملها عن “المرأة القوية”؟ هل هي تلك التي تفعل كل شيء وحدها بلا استراحة، أم التي تعرف متى تستند على الآخرين بثقة؟

القوة الحقيقية لا تعني الانعزال ولا التحمّل حتى الإنهاك، بل أن ندرك أن النمو رحلة جماعية. نحن نصبح أعمق وأكثر توازناً حين نشارك الطريق، ونعترف أن احتياجاتنا الإنسانية لا تُلغى لأننا “أمهات” أو “مختصات”.

لنُفسح مكاناً لصورة جديدة بدلاً من ”امرأة قوية مستقلة“ إلى ”امرأة مستقلة بوعي“، تعرف أن اليد التي تمتد نحوها لا تنتقص منها، بل تمنحها أفقاً أوسع للحياة.

وربما علينا، كآباء وأمهات ومربين، أن نتوقف عن ترديد الأسطورة القديمة: «كوني قوية… لا تحتاجين أحداً».. ما نتمناه حقاً لبناتنا هو أن يكبرن وهنّ يعرفن أن القوة لا تلغي حاجتنا لبعضنا، وأن الاعتماد على الآخرين بوعي ليس ضعفاً بل ذكاء إنساني.
أن يفهمن أن النمو ليس مشروعاً فردياً؛ بل رحلة تزدهر حين نتشارك الطريق، نمد الأيدي ونتلقّى الأيدي الأخرى.. وأن الدعم المتبادل جزءًا من هويتنا، لا تهديداً لاستقلاليتنا.

في مجتمع البستان ، كأول مجتمع دعم افتراضي للأمهات، نحتفي بهذا المعنى؛ نمنح الأمهات مساحات يلتقطن فيها أنفاسهن، يجدن رفقة صادقة، ويختبرن أن طلب الدعم ليس تنازلاً، بل خطوة شجاعة نحو نمو حقيقي ومتشارك.

اللحظة التي تفتحين فيها يدك لتستقبل المساندة، هي ذاتها اللحظة التي تزرعين فيها بذرة قوة جديدة — لكِ ولأطفالك.

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *