الوالدية في زمن السرعة: كيف نستنزف أنفسنا وأطفالنا دون أن ندري؟

كم مرة وجدنا أنفسنا نلهث في سباق يومي لا ينتهي؟ نستيقظ على صوت المنبه، نجهز الأطفال للمدرسة بسرعة، ننطلق إلى العمل، نعود لننجز المهام المنزلية، نساعد في الواجبات المدرسية، وكل ذلك ونحن نلقي نظرة خاطفة على الساعة، نشعر أن الوقت يداهمنا، وأننا متأخرون دائماً عن شيء ما. في خضم هذه الدوامة، أين تقع لحظات التواصل الحقيقي مع أطفالنا؟ وأين يذهب صبرنا الذي يبدو أنه ينفد أسرع من أي وقت مضى؟

سراب الإنجاز السريع: حين تصبح السرعة قيمة عليا

نعيش في عصر لا تمجّد فيه السرعة فحسب، بل تكاد تفرضها علينا كآلية للبقاء والنجاح. هذه الحاجة الملحة للسرعة ليست مجرد اختيار شخصي، بل هي انعكاس لمنظومة أوسع. الأنظمة الاقتصادية الحديثة، المبنية على النمو المتسارع والإنتاجية القصوى، تتطلب منا أن نكون “أدوات” فعالة وسريعة. سوق العمل يكافئ الإنجاز الفوري، وثقافة الاستهلاك تغذي فينا رغبة لا تهدأ في الحصول على المزيد، وبأسرع وقت. حتى التكنولوجيا، بأدواتها التي صُممت لتوفير الوقت، تساهم أحياناً في تسريع وتيرة الحياة بشكل يجعل التوقف شبه مستحيل، وتجعلنا متاحين على مدار الساعة.

هذه “العجلة” التي تدور بنا، والتي غالباً ما تكون مدفوعة بمتطلبات اقتصادية واجتماعية، لا تتوقف عند أبواب مكاتبنا أو مصانعنا، بل تتسرب إلى أقدس مساحاتنا: بيوتنا وعلاقاتنا بأطفالنا. فنجد أنفسنا، دون وعي كامل أحياناً، نتعامل مع التربية بمنطق “الكفاءة” و”إدارة الوقت”.

أتذكر حديثاً مع أم كانت تشكو لي بحرقة: “أشعر أنني مديرة مهام لأطفالي، لا أمّاً لهم. أقول لهم أسرعوا أكثر مما أقول لهم أحبكم. وعندما يحاول طفلي الصغير أن يريني كيف يربط حذاءه ببطء شديد، أجد نفسي أتوتر وأقوم بالمهمة بدلاً منه لأوفر بضع دقائق تمليها عليّ ضغوط اليوم. ثم أشعر بالذنب لاحقاً، كأنني أسرق منه فرصة التعلم ومتعتي بمشاهدته ينجح.”

هذه القصة، ليست الوحيدة من نوعها! إنها صدى لمشاعر الكثيرين منا نحن، المربون، نقع أحياناً في فخ الرغبة بأن “ينتهي” الأمر بسرعة، سواء كان ذلك ارتداء الملابس، تناول الطعام، أو حتى الاستماع لقصة يرويها الطفل بتفاصيل قد تبدو لنا غير مهمة في عجلة يومنا المحكومة بمنطق الإنجاز المتواصل.

تأثير ضغوط “الكفاءة” على أطفالنا وعلينا – نظرة أعمق على الجهاز العصبي

عندما نكون تحت وطأة هذا الضغط المستمر لتحقيق “الكفاءة” والسرعة، فإننا لا نرسل فقط رسائل سلوكية غير مقصودة لأطفالنا، بل نؤثر بشكل مباشر على أجهزتهم العصبية النامية وكذلك على أجهزتنا نحن.

  • على الأطفال استنزاف صامت لجهازهم العصبي .. إن جهاز الطفل العصبي لا يزال في طور التكوين، وهو حساس للغاية للبيئة المحيطة به. العيش في جو من الاستعجال الدائم، والتوقعات المتسارعة، وردود الأفعال المتوترة من المربين، يُبقي جهازهم العصبي في حالة تأهب شبه دائمة. هذا التوتر المزمن يمكن أن يظهر على شكل: صعوبات في التنظيم العاطفي، مشكلات في الانتباه والتركيز، اضطرابات في النوم، أو أعراض جسدية مثل آلام المعدة أو الصداع . والأخطر من ذلك، أن الطفل الذي يعيش في بيئة متسارعة قد يفوته التفاعل الهادئ و المتناغم مع المربي، وهو ما يُعرف بالتنظيم الانفعالي المشترك. هذا التفاعل ضروري جداً لمساعدة الطفل على تطوير قدرته على تهدئة نفسه وتنظيم جهازه العصبي ذاتياً في المستقبل. وبدلاً من ذلك، قد يتعلم الطفل أن العالم مكان متطلب وسريع، وأن عليه أن “يُسرع” ليلحق بالركب، مما يغرس بذور القلق مبكراً.
  • على المربين: إرهاق يمتد إلى الأعصاب..  أما نحن المربون، فلسنا محصنين ضد هذا التأثير. السعي الدائم للسرعة والكفاءة يضع جهازنا العصبي أيضاً تحت ضغط هائل. عندما يكون جهازنا العصبي نشطاً بشكل مزمن، نواجه الاحتراق النفسي، تراجع القدرات التنفيذية للدماغ، تدهور الصحة الجسدية. ونتيجة لذلك، نفقد قدرتنا على أن نكون حاضرين بشكل كامل مع أطفالنا، ونصبح أكثر عرضة لردود الفعل الحادة وغير الصبورة، مما يدخلنا في حلقة مفرغة من التوتر المتبادل بيننا وبينهم.

نشتاق لتلك اللحظات الهادئة من التواصل العميق، لكننا نشعر أن لا وقت لها، أو أن هناك “أولويات” أخرى أكثر إلحاحاً تفرضها علينا متطلبات الحياة. كأننا نحاول أن نملأ كوباً مثقوباً بالماء؛ كلما أسرعنا في الصب، مدفوعين بضغط خارجي، زاد الفقدان، ليس فقط للوقت، بل لصحة أجهزتنا العصبية و علاقاتنا.

الوعي كخطوة أولى نحو الاسترداد

تخيلوا أنفسكم تمشون في حديقة، إذا أسرعتم الخطى، مدفوعين بهاجس الوصول إلى “الهدف التالي” الذي رسمته لكم معطيات خارجية، قد تصلون إلى نهايتها بسرعة، لكنكم ستفوتون رؤية ألوان الزهور المتنوعة، وسماع تغريد العصافير المختبئة بين الأغصان، والشعور بنسيم الهواء العليل وهو يداعب وجوهكم. الوالدية تشبه هذه الحديقة. التفاصيل الصغيرة، اللحظات التي قد تبدو “غير منتجة” بمعايير عالم السرعة، هي التي تصنع جمال التجربة وسحرها الإنساني العميق، وهي التي تسمح لأجهزتنا العصبية وأجهزة أطفالنا العصبية بالتقاط الأنفاس والعودة إلى حالة التوازن.

إن إدراك أن جزءاً كبيراً من هذا الاستعجال ليس بالضرورة نابعاً من إرادتنا الحرة، بل هو نتيجة لتكيفنا مع أنظمة تتطلب منا ذلك، هو بحد ذاته خطوة تحررية. هذا الوعي لا يعني أننا نستسلم لهذه الأنظمة، بل يعني أننا نبدأ في التساؤل: كيف يمكننا، داخل هذه الهياكل، أن نخلق مساحات صغيرة من “المقاومة الإيجابية”؟ كيف يمكننا أن نسترد أجزاءً من وقتنا وإنسانيتنا وصحة جهازنا العصبي من أجل أطفالنا وأنفسنا؟

التباطؤ، في هذا السياق، لا يصبح مجرد خيار شخصي، بل موقفاً واعياً تجاه ثقافة تضع الربح والكفاءة فوق الإنسان وسلامته العصبية. إنه إعلان بأننا نختار، قدر المستطاع، أن نمنح الأولوية للعلاقات البشرية، للحضور الذهني، وللنمو الذي يحتاجه أطفالنا، وللبيئة الهادئة التي تغذي أجهزتهم العصبية.

إنها دعوة للتأمل في كيفية تأثير هذه القوى الأكبر على حياتنا اليومية، وكيف يمكننا، كأفراد واعين، أن نبدأ في رسم ملامح مختلفة لتجربتنا الوالدية، تجربة يكون فيها الوقت صديقاً لا عدواً، وتكون فيها التفاصيل الصغيرة هي كنوزنا الحقيقية، وفرصاً لتهدئة أجهزتنا العصبية المشتركة.

الرحلة نحو والدية أكثر وعياً وبطئاً في عالم متسارع هي رحلة مستمرة ومليئة بالتحديات، ولكنها أيضاً مليئة بالجمال والاكتشاف، وهي ضرورية لصحتنا النفسية والجسدية ولصحة أطفالنا.

شاركوا أفكاركم وتجاربكم في التعليقات أدناه. كيف تشعرون بتأثير هذه الأنظمة المتسارعة على جهازكم العصبي وجهاز أطفالكم العصبي؟ وما هي تساؤلاتكم حول هذا الموضوع؟

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. رائع أكثر من رائع الهمني جدا وساعدني أنا انتبه لهذا الأمر فأنا قيمه الامومه عندي عاليه فعندما استشعر اني لااستمتع بشكل كافي بطفوله صغيري أشعر بالحزن واجد أن الحضور والتباطؤ هما الحل