هل يزيدنا الصيام الرقمي حضوراً؟

في خضم ضجيج العالم الرقمي وإشعاراته المتلاحقة، وجدت نفسي أبحث عن السكينة التي غابت حتى في لحظات ابتعادي عن هاتفي. لم تكن مشكلتي هي الإدمان بالمعنى التقليدي – فقد كنت أعتقد أنني أمارس تقنيناً مناسباً لاستخدامي لوسائل التواصل الاجتماعي. لكن الحقيقة الصامتة كانت تتجلى في تلك اللحظات العابرة حين أمسك هاتفي بلا سبب واضح، هرباً من مواجهة شعور مزعج أو موقف يتطلب حضوراً كاملاً.

في أول يوم من شهر رمضان، لمعت في ذهني فكرة: ماذا لو جعلت هذا الشهر الفضيل فرصة حقيقية للعودة إلى الداخل؟ ليس تقليلاً لاستخدام وسائل التواصل، بل انقطاعاً تاماً – حتى عن المحتوى الهادف والمفيد. كنت أتوق للتحرر من ذلك الدافع المستمر لمعرفة آخر تطورات الأخبار ومتابعة ما يشاركه الأهل والأصدقاء من لحظات حياتهم.

قراري بالانقطاع لم يكن مجرد تحدٍ شخصي، بل كان سعياً عميقاً لإعادة اكتشاف معنى الحضور الحقيقي – مع نفسي، مع أطفالي، ومع روحانية الشهر الكريم التي غالباً ما تخفت وسط ضجيج الشاشات المضيئة.

التحضير للتجربة

مع نهاية أول يوم من شهر رمضان، بدأت خطواتي العملية نحو الانعتاق الرقمي بحركة بسيطة لكنها حاسمة – إزالة كل تطبيقات التواصل الاجتماعي من هاتفي واحداً تلو الآخر. كل ضغطة “حذف” كانت تشبه فتح نافذة صغيرة نحو فضاء من الحرية لم أعرفه منذ سنوات. احتفظت فقط بتطبيق الواتساب كخيط رفيع يربطني بأخوتي وأهلي المغتربين في أصقاع الأرض، ولصديقاتي اللواتي تأنس روحي بأحاديثهن.

لم يكن هذا تناقضاً في قراري، بل كان اعترافاً عميقاً بحقيقة جوهرية في كينونتنا الإنسانية – أننا كائنات تحتاج دوماً لمن يسمعها ومن تسمعه. هناك فرق شاسع بين التواصل الحقيقي الذي يغذي الروح والتصفح العشوائي الذي يستنزف طاقتها. أرسلت رسائل للمقربين أخبرتهم فيها عن رحلتي المرتقبة، وشاركت منشوراً أخيراً على حسابي في الإنستجرام، كان بمثابة رسالة وداع مؤقتة. “سأغيب لمدة شهر وأعود”، هكذا ودّعت عالماً اعتدت زيارته كل ساعة تقريباً.

أما توقعاتي، فقد تراوحت بين الأمل والقلق. تخيلت أياماً أطول، ساعات تتمدد كالضوء، وذهناً أكثر صفاءً يتحرر تدريجياً من ضباب الإشعارات المتلاحقة. لكن في زوايا قلبي، تسللت أسئلة مقلقة – هل سأفوّت أحداثاً مهمة؟ هل سأنفصل عن العالم المتسارع من حولي وأصبح متأخرة عن ركب الأحداث؟ وهل سأستطيع حقاً الصمود ثلاثين يوماً كاملة دون العودة لعادتي الرقمية القديمة؟

الأيام الأولى

مع بداية اليوم الأول من رحلتي، اكتشفت وجهاً آخر لنفسي لم أكن أعرفه من قبل. للمرة الأولى، شعرت بثقل الإدمان الحقيقي يتسلل بين أصابعي كلما التقطت هاتفي. كالظمآن في صحراء رقمية، أفتح هاتفي مراراً وتكراراً، أتصفح الملف الذي كان يحوي التطبيقات المحذوفة، لأجده فارغاً، فأغلق الهاتف بخيبة أمل، ثم أعاود الكرّة بعد دقائق معدودة.

كان هناك شعور متسلط يحاصرني – أن العالم يتحرك بسرعة وأنا في مكاني، متسمرة، أفوت كل شيء. وكم كان مزعجاً ذلك الشعور حين يرسل أحدهم على الواتساب رابطاً لمنشور على الإنستجرام! “أوه، لا أستطيع رؤية هذا الآن”، تلك العبارة التي رددتها لنفسي مراراً، وكأنني أعترف بنوع من العجز المؤقت، وهو شعور غريب لمن اعتادت الوصول الفوري لكل المعلومات.

مع بزوغ شمس اليوم الثالث، بدأت أشعر بالتحرر التدريجي من قبضة تلك العادة. كان الأمر يشبه تخفيف وزن غير مرئي كنت أحمله على كاهلي دون أن أدري. وبحلول مساء اليوم الرابع، حدثت المعجزة الصغيرة – لم أعد أمد يدي للهاتف إلا لسبب حقيقي، لهدف واضح، وليس لمجرد الهروب من لحظة حاضرة.

الأيام الثلاثة التالية كانت بمثابة كشف روحي هادئ. رغم تغير نوم صغيرتي التي أثرت على ساعات راحتي، لاحظت زيادة ملموسة في طاقتي. صبري مع مشاكسات الأولاد بدأ يتسع، و وجدتني أؤدي مهام المنزل بقلب مفعم بالحب، لا كواجبات مفروضة علي. ولعل أكثر ما أدهشني هو تلك البركة التي تسللت إلى وقتي – كيف أصبحت الساعات أكثر اتساعاً، والدقائق أكثر امتلاءً، رغم أن عقارب الساعة لم تتغير سرعتها!

الأسبوع الثاني

مع بداية الأسبوع الثاني، بدأت ألحظ تحولاً جوهرياً في تجربتي الداخلية. كان الهدوء يتسلل إلى روحي، يحمل معه نوعاً من الشفافية في إدراكي للزمن. أصبحت الدقائق التي تمر في يومي ملموسة، لها وزن ومذاق خاص. وفي هذا الفضاء الهادئ، ازدهر تواصلي مع أطفالي، كأننا نكتشف بعضنا البعض من جديد.

تساءلت كثيراً: هل هذا الهدوء الداخلي هو ما منحني قدرة أكبر على الحضور الحقيقي في لحظاتي، أم أن الحضور الواعي هو ما أهداني هذا السكون النفسي؟ حلقة متصلة من العطاء المتبادل، ربما لا بداية محددة لها ولا نهاية. وجدت نفسي أستثمر تلك المساحات الزمنية المتحررة في التعبد وقراءة القرآن بتركيز لم أعهده منذ فترة طويلة. كانت الكلمات تنساب إلى قلبي بعمق أكبر، دون أن تقطعها إشعارات أو تصرفها رغبة خفية في تفقد آخر المستجدات.

لكن العالم الرقمي، لم يتخل عن محاولاته لاستعادتي. راودتني فكرة تحميل الإنستجرام وتسجيل الدخول مرتين أو ثلاث خلال هذا الأسبوع، ولكني لم أستسلم لها. كانت رغبة معرفة من تحدث معي من المتابعين تتسلل أحياناً كهمس خافت، وفضول لمعرفة حال منصتي التي تركتها فجأة. واجهت تحديات عملية أيضاً – رسائل الواتساب التي تحوي روابط لأخبار في الإنستجرام بقيت غامضة لي، وحتى معرفة أوقات عمل المحلات أو قوائم المطاعم أصبحت مهمة تتطلب مساعدة خارجية. كنت ألجأ لزوجي والمقربات مني، أرسل لهم طلبات البحث ليخبروني بالنتيجة، كمبعوثين بين عالمي المنفصل وعالم الإنترنت المتصل الذي اخترت الانسحاب منه مؤقتاً.

منتصف الطريق

مع منتصف رحلتي في الانقطاع الرقمي، بدأت أستشعر معنى الحرية بشكل جديد تماماً. كانت تلك اللحظات التي أسمع فيها من حولي يتحدثون بحماس عن تغطيات المعلنين لمستلزمات العيد – الملابس، الحلويات، الهدايا – تمنحني شعوراً غريباً بالانعتاق. كمشاهد محايد يراقب سباقاً محموماً اختار ألا يشارك فيه، وجدت نفسي أتنفس براحة وسط ضجيج التسويق الرمضاني الذي عادة ما يملأ شاشات التواصل الاجتماعي. كنت أتأمل من حولي، يميلون برؤوسهم نحو هواتفهم كل بضع دقائق، كأنهم في حالة انحناء دائم أمام معبد رقمي لا يُرى. وكثيراً ما تساءلت: “هل كنت أنا هكذا؟” – سؤال بسيط أيقظ في داخلي وعياً جديداً بالعادات التي نمارسها دون إدراك لتأثيرها علينا.

حواراتي مع نفسي اكتسبت عمقاً ملموساً، كأن صوتاً داخلياً كان مكتوماً بضجيج الإشعارات قد تحرر أخيراً. وانعكس هذا جلياً في تدويناتي الصباحية، التي أصبحت أكثر تأملاً وصدقاً، كأن الكلمات التي كانت تتسابق للخروج أصبحت تتأنى الآن، تختار طريقها بعناية أكبر وتمهل. وفي لحظات ما قبل النوم، لاحظت تغيراً جوهرياً – لم أعد أشعر بتلك الحاجة الملحة لتصفح هاتفي. اقتصر تعاملي معه على أغراض عملية بحتة: التأكد من مواعيد اليوم التالي وضبط المنبه. رغم قلة ساعات النوم –بسبب تغير الروتين في شهر رمضان – وجدت نومي أعمق، كأن عقلي لم يعد مثقلاً بآخر ما شاهده قبل الخلود للنوم. كان يغوص في السكينة مباشرة، دون تلك الفترة الانتقالية من التفكير المتشعب والقلق الذي عادة ما يسبق النوم العميق.

الأسبوع الأخير

في الأيام الأخيرة من رحلتي، وجدت نفسي في حالة من التناغم العميق مع إيقاع الحياة البطيء. كنت منشغلة بشكل طبيعي بالحياة نفسها، لدرجة أنني أدركت حقيقة بسيطة ومدهشة – حتى لو لم أمسح تطبيقات التواصل الاجتماعي منذ البداية، ربما لم يكن ليكون لدي الوقت لتفقدها. شعرت بسعادة خاصة بعدم وجود ذلك الالتزام الخفي بمتابعة الأحداث وتصفح المنشورات كأنه واجب يومي. كأنني كنت أعيش في قوقعة شفافة تحتضن عائلتي و عملائي فقط، عالم مصغر له حدوده وحميميته، بعيداً عن العالم الرقمي المترامي الأطراف.

لاحظت تغيراً لطيفاً في علاقاتي المقربة. أحاديثي مع صديقاتي عبر الواتساب أصبحت أكثر عمقاً وثراءً، وأدركت شيئاً غريباً – كيف أن التواصل عبر الإنستجرام، بإرسال مقاطع فيديو متبادلة ووضع إعجابات وتعبيرات رمزية، كان في الحقيقة يحل محل المحادثات الأكثر ثراءً. هنا، في فضاء الرسائل البسيطة، عادت الكلمات إلى حجمها الطبيعي، وعادت المحادثات إلى عمقها المنسي. أكثر ما أدهشني في الأيام الأخيرة هو تلك الانسيابية التي أصبحت تتدفق بها الكلمات عند الكتابة. كأن هناك قناة صافية فتحت بين أفكاري وكلماتي، دون ضجيج رقمي يشوش على تلك العملية. وجدت أن ترجمة مشاعري إلى صور وتعبيرات في هذا المقال لم تكن بتلك الصعوبة التي كنت أتوقعها. وتساءلت – هل كانت عضلة التعبير الكتابي لدي تضمر ببطء وسط طغيان الصور والفيديوهات القصيرة على حياتنا الرقمية؟

ما تعلمته من التجربة

بعد ستة وثلاثين يوماً من العيش خارج وسائل التواصل الاجتماعي، أدركت أن علاقتي بالتكنولوجيا كانت أشبه بالعلاقة المتقلبة مع صديق متطلب – تمنحك الكثير لكنها تأخذ منك أكثر. كان الثمن الذي ندفعه جميعاً – دون أن ندري – هو جزء كبير من حضورنا الحقيقي في لحظاتنا اليومية. تلك اللحظات العابرة حين ألتقط هاتفي “للهروب” كانت في الحقيقة هروباً من فرص ذهبية للتأمل والنمو.

اكتشفت أيضاً مدى قوة الصمت وقيمته. تلك المساحات الفارغة من الضجيج الرقمي، اتضح أنها ليست فارغة على الإطلاق، بل مليئة بالأفكار الأصيلة والمشاعر العميقة التي نادراً ما تجد فرصتها للظهور وسط التحفيز المستمر للعقل من الخارج.

طالما آمنت بأن التربية الواعية تبدأ بالوعي الذاتي. لكن في هذه الستة والثلاثين يوماً، أدركت أن الوعي، مثل البصيرة، يمكن أن يزداد عمقاً وصفاءً كلما منحناه مساحة للتنفس. في صيامي الرقمي، وجدت نفسي أعيد اكتشاف مبادئي، ولكن هذه المرة من خلال تجربة شخصية أكثر صفاءً، بعيداً عن المشاركة والتوثيق المستمر.

تأكدت أن الحضور الحقيقي في عالم مشتت هو اختيار يومي.. و اكتشفت أن العلاقات التي كنت أراها عميقة يمكن أن تكون أعمق، وأن الحضور الذي كنت أمارسه يمكن أن يكون أكثر كثافة.. كما أعادت هذه التجربة شحن مخزوني العاطفي والفكري، ومنحتني منظوراً أكثر ثراءً.

لم تكن رحلتي في الانقطاع عن وسائل التواصل الاجتماعي مجرد تحدٍ عابر أو تجربة للتباهي، بل كانت رحلة عميقة إلى داخلي – إلى المساحات المنسية من كياني التي غطتها طبقات من الضجيج الرقمي على مر السنين.

أنصح كل مَن يشعر أن حياته الرقمية تسرق من حضوره الحقيقي أن يخوض هذه التجربة، ولو لفترة قصيرة. ليست دعوة للعودة إلى عصر ما قبل التكنولوجيا، بل دعوة لإعادة التفاوض على شروط علاقتنا بها، لنضمن أنها تخدم حيواتنا وقيمنا، لا العكس.

نصائح للراغبين في خوض التجربة

لمن يفكر في خوض تجربة الانقطاع عن وسائل التواصل الاجتماعي، أقدم هذه النصائح من قلبي:

ابدأ بفترة قصيرة – أسبوع مثلاً – قبل الالتزام بشهر كامل. التدرج يمنح الجسم والعقل فرصة للتكيف، ويجعل التجربة أكثر استدامة.

أخبر المقربين منك بقرارك، ليس فقط لكي يعرفوا كيفية التواصل معك، بل لأن مشاركة قرارك يعزز التزامك به ويوفر لك نظام دعم.

استبدل عادة تصفح وسائل التواصل بعادات إيجابية محددة – القراءة، كتابة اليوميات، التأمل، التمارين الرياضية – حتى لا يتحول فراغ الوقت إلى شعور بالملل.

تقبل مشاعر القلق والرغبة في “معرفة ما يحدث” كجزء طبيعي من التجربة. لاحظها دون أن تحكم عليها، واعرف أنها ستخف تدريجياً مع مرور الوقت.

استمتع باكتشاف نفسك من جديد. راقب كيف يتغير نمط أفكارك وانفعالاتك، وكيف تتخذ قراراتك، وكيف تقضي وقتك حين لا تكون مسيّراً بإشعارات الهاتف.

في عالم يتسابق نحو المزيد من الاتصال، ربما تكون لحظات الانفصال المتعمد هي ما نحتاجه حقاً لنعيد الاتصال بأنفسنا وبمن نحب بطرق أكثر معنى وعمقاً.

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. فعلا التوازن والتقنين في استخدام الجهاز يعيد صفاء الذهن الي أصبح متشتت في خضم عجله الحياه السريعه من قبل رمضان جربت اخلي ساعتين اصفي بالي التلفون يكون في هذا الساعتين للمكالمات المهمه جدا النت مغلق التفاعل يكون ابسط مع الأطفال التركيز أقوى ترتيب الأولويات تكون مدروسه بمدارك واضحه وهادئه …. دمتي بحفظ الرحمن