كيف نربّي أبناءً يفهمون أنفسهم… ونحن لا نفهم أنفسنا؟

لم يكن هناك شيء “خارج عن السيطرة” ذلك اليوم.. كل الأمور كانت ظاهرياً تحت السيطرة: البيت نظيف، الغداء شبه جاهز، و المهام الأساسية تم إنجازها.. لكن هناك شيء بداخلي لم يكن ساكناً، ولم أعرف حينها ما هو!

كان يوماً عادياً، حتى وقعت تلك المشكلة الصغيرة بين توأمي.. بكاء وصراخ وسباق نحو حضني، كأن كل واحد يريد أن يسبق الآخر في إخباري بما حدث.

فتحت فمي لأقول جملتي المعتادة: ”لحظة، سأسمعكما، لكن سأساعدكما أولاً لنهدأ“، وأنا أحاول إمساك كل منهما بيد. لكن فجأة، لم أستطع! شعرت أن صوتي لا يحمل صبري المعتاد، وأن كلماتي خرجت مشدودة أكثر من اللازم، وأن قبضة يدي كانت قاسية خالية من الحب.. حين نظرت إلى عيون أحدهما، رأيته مستغرباً خائفاً، كأنه يقول: ”لماذا لا تفهمينني؟“ ، في اللحظة ذاتها التي سألت نفسي ”ماذا بي؟ لماذا لا أفهم نفسي؟“

حين نُربّى على كتمان الشعور، لا على تسميته وتفريغه

أذكر جيدًا كيف كان يُقال لنا ونحن أطفال – ليست بالضرورة عبارات موجهة لي و لكنني كنت أسمعها حولي في البيت، في الحارة، في بيت جدي و في المدرسة أيضاً:

  • ”لا تبكِ، انتهى الموضوع“
  • ”عيب عليك، ليش تصيح؟“
  • ”قوّي قلبك، لا تخاف“
  • أو الأسوأ: ”قوم انشغل و رح تنسى“

كبر معظمنا ونحن نجيد الهرب من أنفسنا.. صرنا نعرف كيف نتجاهل الضيق لا كيف نفهمه! كيف نُطفئ الحزن بالنشاطات والانشغل لا بالحديث عنه! و كيف نكبت الغضب كي لا نُزعج أحداً، ثم ننفجر بصمت! ولم يخبرنا أحد أن المشاعر مثل أمواج البحر — لا يمكنك إيقافها، لكنها ليست مخيفة. هي فقط تحتاج من يُجيد السباحة من خلالها، بدلاً من محاولة الهروب منها و الغرق.

طفلك لا يملك هذه الأدوات… إنه ينتظرها منك

طفلي لم يصرخ لأنه سيء، بل لأنه لم يعرف اسماً لما شعر به. لم يقل ”أنا محبط“، بل رمى باللعبة. لم يقل ”أنا أحتاجك“، بل التصق بي ورفض أن أذهب. هو لا يملك المفردات ولا المفاتيح، و حتى عندما يملكها عندما يكبر هو لن يستعملها بالضرورة.. طفلي يملك فقط جسداً يشعر، وقلباً يفيض، وعينين تنظران إليّ متسائلة: ”هل ترينني؟ هل تسمعينني؟ هل تعرفين ما أشعر به؟ هل تفهميني؟“ لكنه لا يسأل بالكلمات، بل بالسلوك. وأنا إن لم أكن في حالة حضور، فسأقرأ سلوكه على أنه ”تمرد” أو ”دلع” أو ”إزعاج“، بينما هو فقط يطلب فهماً.

كيف يترجم الطفل مشاعره إلى سلوكيات؟

الطفل كائن بديهي، يعبّر عن مشاعره بالطريقة الوحيدة التي يعرفها. فحين يشعر بالإحباط، لا يقول ”أنا محبط لأن اللعبة لم تعمل كما أريد“، بل يرميها بقوة. وحين يشعر بالخوف من فقدان انتباهك، لا يقول “أنا أخاف أن تتركيني“، بل يصبح ”ملتصقاً“ بك ويرفض الانفصال عنك. هذه لغة الطفل الطبيعية: الجسد، والحركة، والصوت. وهي لغة صادقة تماماً، لكنها تحتاج إلى ”مترجم“ يفهمها ويساعده على التعبير عنها بصورة صحية سواء بالكلمات أو غيرها.

ماذا يحدث حين نسيء فهم رسائل الطفل؟

حين نقرأ سلوك الطفل على أنه ”سوء تصرف“ بدلاً من ”طلب مساعدة“، نخلق دورة من سوء الفهم:

  • الطفل يشعر بالإحباط ← يرمي اللعبة ← نعاقبه على ”الرمي” ← يشعر بالظلم ← يصرخ ← نعاقبه على ”الصراخ”
  • الطفل يشعر بالخوف ← يتشبث بنا ← نقول له ”لا تخف“ ← يشعر أن خوفه ”خطأ” ← يكبت الخوف ← يظهر كسلوك آخر (عناد، قلق)

هكذا نعلّم الطفل — من غير قصد — أن مشاعره ”مشكلة“ يجب حلها، بدلاً من أن نعلّمه أنها ”رسائل“ يجب فهمها.

دورنا كـ ”مترجمين عاطفيين“

دورنا ليس أن نوقف مشاعر الطفل، بل أن نساعده على فهمها وتسميتها. أن نكون “المرآة الآمنة“ التي تعكس شعوره بوضوح وتقبُّل.

بدلاً من: ”لا ترمي اللعبة!“ نقول: ”أرى أنك محبط من اللعبة. هل تريد أن تتحدث؟“، بل ويكفي في الغالب أن نصمت و نستمع لبكائه، صراخه، كلامه.

بدلاً من: ”لا تخف“ نقول: ”أعلم أنك خائف، يمكنك البقاء بقربي“، أو نكتفي بتحقيق تواصل جسدي يعطيه الأمان ليعبر عن خوفه بالبكاء و غيره ثم نعالج هذا الخوف في مواقف هدوء و ليس بالضرورة في هذا الموقف نفسه

هكذا نعلّم الطفل أن مشاعره طبيعية ومفهومة، وأننا موجودين لنحتويها.

حين نفهم، نبني جسور الثقة

الطفل الذي يشعر أنه مفهوم يصبح أكثر هدوءًا وتعاوناً، لأنه لم يعد يحتاج إلى ”القتال“ ليوصل رسالته. يعرف أن أمه تراه وتسمعه وتفهم ما يجري بداخله. وهذا لا يعني أن نسمح بالأذى، و لكن أن نفصل بين الشعور (الذي نتقبّله دائماً) والسلوك (الذي قد نحتاج إلى وضع حدود لإيقافه).

لكن… كيف أفهمه، وأنا لا أفهم نفسي؟

هنا تظهر المفارقة. نحن لا نربّي فقط بالكلمات، بل بطريقتنا في الشعور، وفي التعبير، وفي التعامل مع أنفسنا. حين أطلب من طفلي أن ”يعبر عن مشاعر“ أو ”يفرغها“، هل أستطيع أنا التعبير عن مشاعري، فهمها، أو تفريغها بشكل صحي حين أقول له ”اهدأ وتكلّم“، هل أعرف أنه من غير المنطقي عندما أكون منزعجة، مرهقة، أو خائفة أن أتكلم بهدوء؟ الأمر ليس لأننا فقط نفتقد الأدوات، بل أننا لم نُعطَ الفرصة لتعلّمها. لم يقل لنا أحد أن ما نشعر به مهم، ويستحق اسماً، ومساحة، واحتواء. لكن الجميل؟ أن التعلّم ممكن، الآن. وأن الأمومة لا تتطلب الكمال، بل الصدق والرغبة في أن نفهم أنفسنا، ونحن نُربي.

التجارب الصامتة التي نحملها

نحن جيل كبر وهو يحمل بداخله مشاعر غير مفهومة و تجارب غير مفككة، و أحاسيس لم يُعترف بها، ولا فُسرت.. طفولة فيها بكاء قيل له: ”عيب“. غضب قيل له: ”هدّي أعصابك“. فرح قيل له: ”لا تفرحي كثيراً، تحزنين بعدين“. كبرنا ونحن لا نعرف تماماً ماذا نشعر.. طبعاً ليس بسبب سوء نية من أهلنا، ولكن لأن أهلنا أنفسهم نشأوا في بيئات لا تسمح بالتعبير العاطفي في الغالب. كانوا يحاولون ”حمايتنا“ من المشاعر الصعبة، لكنهم في الواقع علّمونا أن نخاف منها.

الرسائل الخفية التي تلقيناها:

  • ”البكاء علامة ضعف“ ← تعلمنا أن نكبت الحزن
  • ”الغضب سوء أدب“ ← تعلمنا أن نبتلع الظلم
  • ”لا تفرح كثيراً“ ← تعلمنا أن نشك في سعادتنا
  • ”انشغل تنسى“ ← تعلمنا أن نهرب من أنفسنا

الطفل الذي لا يزال يعيش فينا

داخل كل واحد منا طفل صغير لا يزال ينتظر من يقول له ”أفهم أنك تشعر بهذا. أنا معك“. هذا الطفل الداخلي يؤثر على طريقة تربيتنا اليوم أكثر مما نتخيل. حين يبكي الأطفال، يشعر البعض بقلق شديد ليس بسبب بكائه، بل بسبب صدى البكاء الذي لم يُسمح لي بإكماله حين كان صغيراً.. و حين يغضبون، يشعر البعض بالرغبة في إسكاته بسرعة، لأن غضبه يوقظ غضبهم المكبوت.

كيف تؤثر هذه التجارب على تربيتنا؟

  1. نعيد إنتاج نفس الأساليب:
    • نقول ”لا تبكي“ لأننا تعلمنا أن البكاء ”مشكلة“ يجب حلها
    • نقول ”اهدأ“ لأننا لا نحتمل رؤية الطفل في حالة اضطراب عاطفي
    • نقول ”انشغل“ لأننا نحن أنفسنا نهرب من المشاعر الصعبة
  2. نتفاعل من مكان الألم، لا من مكان الحكمة:
  1. طفل يصرخ ← نتذكر كيف كان يُقال لنا ”عيب تبكي“ ← نصرخ عليه لكي يتوقف
  2. طفل يخاف ← نتذكر كيف كان يُقال لنا ”ما في شي يخوّف“ ← نقلل من مخاوفه
  3. طفل يحزن ← نتذكر كيف كان يُقال لنا ”قوي قلبك“ ← نحاول ”إصلاح“ حزنه بدلاً من تقبله
  4. نحمّل الطفل مسؤولية شفاء ألمنا:
  5. أحياناً نتوقع من الطفل أن يكون ”سهلاً“ و ”مطيعاً“ و ”سعيداً“ دائماً، لأن صعوبته تذكرنا بصعوبتنا التي لم نسمح لها بالظهور.

دورة نقل الألم عبر الأجيال

هذه الآلام لا تُشفى من تلقاء نفسها. بل تنتقل من جيل إلى جيل، كل جيل يحاول ”حماية“ الجيل التالي بنفس الطريقة التي تكن حمايتها بها.

  • الجدة تقول للأم: “لا تدللي الطفل، خليه يتعلم يصبر“
  • الأم تقول لنفسها: ”أنا لست أمي، أنا أعرف أكثر“
  • لكن الأم تقول للطفل: ”لا تبكي، أنا هنا“ (بنفس الطاقة القلقة)

فماذا كانت النتيجة؟

كثير منّا اليوم يجد صعوبة في:

  • التعرف على مشاعره الحقيقية: ”أنا حزينة، لكن لا أعرف لماذا“
  • التعبير عن الحاجات: ”أحتاج للمساعدة، لكن لا أستطيع طلبها“
  • وضع حدود صحية: ”أقول نعم لكل شي، وبعدها أندم“
  • الاستماع للحدس: ”أحس بإحساس، لكن لا أثق فيه“
  • التعامل مع الصراع: ”عندما أشعر بالتوتر، أهرب أو أنفجر“

من أين أبدأ؟ خطوات صغيرة تغيّر الكثير 

الخطوة الأولى نحو التغيير ليست أن ”نتجاوز“ هذه التجارب الصعبة، بل أن نعترف بوجودها ونتقبّلها كجزء من قصتنا. أن نقول لأنفسنا: ”أنا تعلمت أن أخاف من مشاعري، وهذا طبيعي بسبب الطريقة التي نشأت بها. لكن اليوم، أنا أختار أن أتعلم طريقة جديدة.“

  • 🟢 سمّي شعورك بصوت مسموع. عبري و قولي: ”أنا متوترة لأني متأخرة على الموعد“ بدلاً من الصمت أو الانفجار.
  • 🌿 راقبي توتر جسدك. هل تنفسك سطحي؟ هل كتفاك مشدودان؟ الجسد يُخبرك قبل العقل.
  • 🔄 توقّفي قبل ردّ الفعل. خذي نفساً واحداً.. اسألي نفسك: هل أنا غاضبة من طفلي؟ أم من شيء آخر؟
  • ✍️ دوّني مشاعرك. حتى ولو بسطر واحد في اليوم: ”شعرت بالغضب عندما…“ هذا يعيد ترتيب الداخل.
  • 👂 تحدثي مع من يفهمك. تعبيرك عن أي مشاعر صعبة و تجارب عالقة بصوت مسموع مع من لا يحكم عليك، في مساحة آمنة، يغير المعادلة كلها.

*هذه الخطوات عامة جداً و قد تكون فعالة للبعض فقط. هذا لأن المشاعر و التعبير عنها أمر معقد يحتاج إلى فهم عميق في حلقات تعلم صغيرة مع وجود المتابعة* 

وفي الختام… لكل واحدة منا طريق مختلف

البعض قد يبدأ عبر الكتابة. البعض بحاجة لعلاقات داعمة تصغي له. والبعض يحتاج مساحة آمنة مع مدرب والدية، أو معالج نفسي يُرافقه في فهم الجروح القديمة. لا يوجد طريق واحد صحيح. لكن كل طريق يبدأ من لحظة صدق. من تلك الهمسة الخافتة في داخلك: ”أنا أريد أن أفهم نفسي… حتى أستطيع أن أربي بوعي، وهدوء، وحب حقيقي.“

التغيير لا يعني أن نصبح ”كاملين“ ، بل أن نصبح أكثر وعياً لتجاربنا و مشاعرنا دون أن نتركها تنتقل كما هي لأطفالنا.

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *